سورة الأنعام - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(136)}
وهنا رجوع إلى كلام عن الذين يناهضون منهج الله.
و(ذرأ) أي خلق، وبث، وبشر، والحرث يراد به الزرع، وسمى الزرع حرثاً؛ لأنه يأتي بالحرث، و(الأنعام) وهي تتمثل في ثمانية أزواج في آية تأتي بعد ذلك، وهي الأبل، والبقر، والضأن والمعز.
{وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً} أي مما خلق، وهم قد حرثوا فقط؛ لأن الذي يزرع هو الله، فسبحانه الذي أعطى للبذرة قوتها لتربي لها جذراً، وتمتص عناصر الغذاء من الأرض، وهو الذي جاء بعناصر الأرض كلها، وهو الذي جعل البذرة تتوجه إلى العناصر الصالحة لها، وتترك غير صالح بقانون {الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى}. والذي صنعه الله الحرث وفي الأنعام تتخيلون أنكم تتصرفون فيه على رغم أنه هو الذي ذرأ وخلق. إنه سبحانه هو المتصرف.
هم جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا: هذا لله (بزعمهم) وهذا لشركائنا، أي جاءوا بالحرث وقسموه قسمين. وقالوا: هذا لله، وهذا للأصنام. وكذلك قسموا الأنعام وجعلوا منها قسماً لله، وقسماً لهم، ألم يكن من العدل أن يقسم الذي خلق بدلاً من هذا الزعم منكم لأنكم أخذتم غير حقكم، وياليتكم أنصفتم فنرضى بقسمتكم فيذهب القسم الذي لله للصدقات على الفقراء، والذي للشركاء يذهب للأصنام وللسدنة الحجاب عليها والخادمين والذين يضربون لكم الأقداح، ويا ليتكم عرفتم العدل في القسمة بل أن ما صنعتموه هي قسمة ضيزى جائرة وظالمة، لماذا؟. تأتي الإجابة من الحق: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلى الله وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَآئِهِمْ..} [الأنعام: 136].
أنتم قسمتم وقلتم: هذا لله وهذا لشركائنا. فاصدقوا مع أنفسكم في هذه النسبة، لكنهم كانوا يسرقون حق الله، وكان لهم في الهلاك تقسيم معين، وفي الزيادة لهم تقسيم آخر. فإذا ما جاءت آفة للزرع وأهلكته أخذوا ما خصصوه لله وأعطوه للشركاء وقالوا: إن ربنا غني! وبرغم أنكم قسمتم ولكنكم لم توفوا بالقسمة التي فرضتموها ورضيتم بها.
وكذلك في الأنعام يقدرون عدداً من الأنعام ويقولون: هذه لله، وتلك للشركاء، فإن ماتت بهيمة من النذور لله لم يعوضوها، وإن ماتت بهيمة منذورة للأصنام يعوضونها ويأخذوا بدلاً منها من القسم الذي نذروه لله. وأيضاًَ لنفترض أن عيناً جارية ساحت فيها المياه لتروي الزرع المقسوم لله، فيأخذوا منها للأرض المزروعة للأصنام. إذن هي قسمة ضيزى من البداية، وليتهم وفوا بهذه القسمة، وهكذا ساء حكمهم وفسد.
ويقول الحق بعد ذلك: {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ..}.


{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(137)}
وأيضاً نقلوا تلك القسمة الضيزى إلى ما يتعلق بذواتهم في الإنجاب والإنسال؛ فشركاؤهم زينوا لهم قتل أولادهم، و(التزيين) هو إدخال عنصر التحسين على التزيين أمراً عرضياً طارئاً، ووجه التزيين أنهم كانوا إما أغنياء، وإما فقراء، فإن كانوا فقراء يقل الواحد منهم لماذا أجلب لنفسي هِّما على همّ، وإن كانوا أغنياء يقل الواحد منهم: إن الأبناء سيأخذون منك ويفقرونك. إذن ففيه أمران: إما فقر موجود بالفعل، وإما فقر مخوَّف منه، ولذلك تجد الآيات التي تعرضت لهذا المعنى، تأتي على أسلوبين اثنين؛ فالعَجُز مختلف باختلاف الصدر، والذين يحبون أن يستدركوا على أساليب القرآن لأنه مرة يقول: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم...} [الإسراء: 31].
ومرة ثانية يقول: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ...} [الأنعام: 151].
فما الفرق بين العبارتين؟
ونقول لمثل هذا القائل: أنت تقارن بين التذييل {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}، و{نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم}. هذا تذييل لآية، وهذه تذييل لآية ثانية. هات ذيل الآية مع صدرها نجد أن ذيل كل آية مناسب لصدرها. ومادام قد اختلف في الصدر فلابد أن يختلف في الختام، ففي الآية الأولى يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} فالإملاق وهو الفقر واقع موجود. إذن فشغل الإنسان برزقه أولى من شغله برزق من يعوله من الأولاد، فيقول الحق لهؤلاء: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ...} [الأنعام: 151].
فالإملاق موجود، وشغلهم برزق أنفسهم يملأ نفوسهم. لذلك يقول لهم: {نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} فيطمئنهم سبحانه نحن نرزقكم ثم نرزقهم. أما إن كان الإملاق غير موجود فالحق يقول: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم...} [الإسراء: 31].
أي لا تقتلوا أولادكم خوفاً من فقر، فأنتم تملكون رزقكم، وحين يأتي الأولاد نرزقهم ونرزقكم معهم. وهكذا نرى أن الصدر مختلف في الآيتين، وكذلك العجز، والشركاء كانوا يزينون قتل الأولاد، وهذه مسألة تحتاج إلى تزيين قاس؛ لأن حب الأبناء غريزة في النفس البشرية، والنفس تحب أن يكون لها ذرية؛ لأن الإنسان يفهم أنه مهما طال عمره فسوف يموت فيحب أن يظل اسمه في الأجيال المتتابعة. ونجد الإنسان وهو ممتلئ بالسعادة حين يأتيه حفيد، ويقول: لقد ضمنت ذكري لجيلين قادمين، وينسى أن الذكر الحقيقي هو الذي يقدمه الإنسان من عمل، لا ذكرى الأبناء وحب امتداد الذات. وقتل الأبناء يحتاج إلى تزيين شديد، كأن يقال: إن أنجبت أبناء فسيفقرونك ويذلونك، فأنتم أمة غارات وأمة حروب وكل يوم يدخلك أبناؤك في قتال ونزال فتكون بين فقد لأبنائك أو انتهاب لمالك، وإن كانوا بنات فسيتم سبيهن من بعدك، وهكذا تكون المبالغة في الإغراء لعملية تناقض الفطرة السليمة في امتداد النسل. {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ..} [الأنعام: 137].
و{لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين} تفيد أن بعضهم كان يرفض قتل الأولاد، و(يردوهم) من الردى، وهو الهلاك، والموت. {ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ..} [الأنعام: 137].
أي يخلطوا عليهم الدين، فهل كان عندهم دين؟ لقد ورث هؤلاء من أمر قيم الدين ما كان سابقاً وهو ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام حتى مالوا وزالوا عنه إلى الشرك، إنهم زينوا لهم أعمالا ليوردوهم موارد الهلكة. وحاولوا أن يخلطوا عليهم ما بقي لهم من دين. {... وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 137].
لأن وأد الأولاد وقتلهم إنما ينافي فكرة خلق الله، فهل يخلق الله لتقتل أنت؟!
كأنهم يصادمون إرادة الإِيجاد من الحق سبحانه وتعالى، لكنّه- سبحانه- لو شاء ما فعلوا ذلك، فهو قد أعطاهم الاختيار، ومن باب الاختيار ينفذون إلى كل مراد لهم، ولو لم يخلق الله فيهم اختياراً ما فعلوا ذلك؛ لأنه لو أراد ألا يضلوا لما فعلوا، وقد أراد الله أن يوجد خلقاً لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهم الملائكة.
إذن فهذه المسألة ليست عزيزة على الله، وسبحانه ساعة يقهر على مراد له، إنما يكون ذلك لمصلحة المخلوق، وساعة يتركه مختاراً فمن إمداد الخالق له بالاختيار ولا يفعل المختار شيئاً غصباً عن الله؛ لأن الألوهية تقتضي أمرين اثنين: تقتضي قدرة تتجلى في الأشياء القهرية التي لا يستطيع العباد أن يقفوا أمامها، والإِنسان هو الكائن الوحيد الذي له حق الاختيار بين البديلات في مراداته، أما بقية الكون فسائر بقانون التسخير وليس له اختيار.
والكائنات المسخرة أثبتت لله طلاقة القدرة، ولكنها لا تثبت لله محبوبية المخلوق؛ لأن المحبوبية تنشأ من أنك تكون حرًّا في أن تفعل، ولكنك تؤثر فعلاً مراد لله على مرادك. {وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}.
و(الافتراء) هو الاختلاق والكذب المتعمد، وهم مفترون، لأنهم أرادوا أن يغيروا صدق الواقع في الإِنجاب، فقد خلق الله الزوجين- الذكر والأنثى- من أجل الإِنجاب.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {وَقَالُواْ هذه أَنْعَامٌ...}.


{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(138)}
وهذا تمادٍ في الشرك؛ لأنهم قسموا الحيوانات والحرث وحجزوا قسماً للأصنام، وهذه الأنعام المرصودة للأصنام لا يتصرف فيها أحد، فلا يؤخذ لبنها ولا يستخدمها أحد كمطايا، ولا يتعدى نفعها للناس. ولم يتنبهوا إلى أن هذه الأنعام نعمة من الله، ولابد من الانتفاع بها، وليس من حسن التعقل أن تترك حيواناً تستطيع أن تستفيد من تسخيره لك ولا تفعل، هم قد فعلوا ذلك وحكى الحق عنهم فقال: {وَقَالُواْ هذه أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ..} [الأنعام: 138].
أي هي أنعام محرم استخدامها، وحرموا أيضاً ركوبها. {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا..} [الأنعام: 138].
وتمادوا في الكفر فذكروا أسماء الأصنام عليها: {وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا افترآء عَلَيْهِ..} [الأنعام: 138].
وهذا لون من الافتراءات قد فعلوه ونسبوه إلى أنه متلقَّى من الله، ومأمور به منه- سبحانه- ولو قالوا: إن هذه الأمور من عندهم لكان وقع الافتراء أقل حدة، لكنه افتراء شديد لأنهم جاءوا بهذه الأشياء ونسبوها إلى الله، وهم قد انحلوا عن الدين وقالوا على بعض من سلوكهم إنه من الدين، ولذلك يجازيهم الله بما افتروا مصداقاً لقوله: {سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 138].
ويقول الحق بعد ذلك: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ..}.

40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47